شيعها بدمعة حارقة قبل أن تختفي بين الورى.. دمعة أذرفها قلبه قبل عينيه.. دمعة حملت كل حزنه وألمه.. دمعة اختلطت بدماء جرحه.. دمعة بكاها وهو لا يصدق ما حدث، لا يصدق أنها رحلت، لا يصدق أنه لن يراها بعد الآن، لا يصدق أن الجسد الذي احتواه بين يديه دائماً بات الآن بين يدي الموت، وتساءل هل سيكون التراب رفيقاً بها كما كانت يديه؟هل سيبقي على جمالها الفاتن الذي عشقته عينيه؟ أم آن الأوان لأن يتحلل الجسد ويذوى الجمال؟!
أغلق عينيه ليطرد عن خياله هذه الصورة التي قد تصير عليها، لقد عرفها جميلة تذيب الحجر بعذوبتها وتنافس الندى في رقتها، فأحب الجمال وعشق العذوبة ورفع راية الاستسلام أمام الرقة وأحبها، أحبها كما لم يحب من قبل، أحبها كما يجب أن يكون الحب،أحبها بقلبه وعقله، منحها روحه وكيانه، أهداها عمره وحياته وأحبها، أحبها حتى تصور أنهما صارا جزءً واحداً، جسداً لا ينقسم، قلباً لا يتجزأ، وروحاً لا تفترق.. حتى جاء الوحش الذي لا يعرف حباً ولا ينحني لهوى, الموت، ياله من قاسِ، كيف يأخذها منه؟ كيف يحرمه منها؟ كيف يتركه لكل هذا الحزن الذي يعيشه من بعدها، وكل تلك الوحدة التي يحيا فيها من قربها؟! ولكن إلى متى الحزن؟ وكم ستظل نابضة في قلبه؟ هل لأيام؟ لأسابيع؟ لشهور؟! ولكن ها قد مرت الأيام وسحبت ورائها الأسابيع، وصارت الأسابيع شهوراً، والشهور سنيناً، ومرت فصول عمره حتى صار الربيع خريفاً.. كل ذلك ومازال الحزن باقياً، كل ذلك ومازال الحب نابضاً، لقد رحل الجسد ولم يعد يلمسه، وماتت الملامح ولم يعد يراها، ولكنه مازال يحبها ولم يستطع أن يحب غيرها وعجز على أن يكون حبيباً لسواها، نعم مازال يحبها وقد اكتشف أنه لم يحب جسداً ولم يعشق ملامحها، بل ذاب وجداً وهياماً في روحها، تلك الروح الخالدة التي مازالت ترفرف حوله، تشاطره فرحه كما كانت هي، وتحزن لحزنه كما فعلت هي، تلك الروح التي بددت وحدته وجعلته ينسى الفراق، فجعلت له من الذكرى رفيقاً ومن الحب قمراً يضيء ليله المظلم..وهكذا علمه حبها أن الحب يسمو بالمشاعر ويعلو بها حتى يلمس بها السماء ويتخطى بها الصعاب، وأن لذة الحب ليست في اللذة الجسدية، بل في الحب ذاته، تلك اللذة التي تبقى وحدها حتى وإن افترقت أو رحلت الأجســــــــــــاد....